عن العراق الذي يستأهل الاحتلال

ربيع بركات

لم يكن «تقرير تشيلكوت» الذي أُريد منه استخلاص العبر البريطانية الخاصة بحرب العراق، مقطوعاً عن جدل دائر منذ ربع قرن، ولا هو شكّل خاتمة لهذا الجدل. فقد أعاد تسليط الضوء على جراح في بلاد الرافدين، كانت قد سببتها الممارسات الأمنية والحروب المتناسلة التي أطلقها النظام العراقي السابق، إلى أن جاء تدخّل الجرّاح الأميركي ومساعده البريطاني العام 2003 ليبتُر أطراف الجسد العراقي، تحت شعار إنقاذ المريض. منذ تلك اللحظة وهناك من يذكّرنا٬ بتكرار يشكل جزءاً من بروباغندا منمّقة، بفائدة العملية الجراحية المذكورة: لقد أنقذت الحربُ العراقَ برغم أضرارها التي تتحمل دول الجوار والمكونات العراقية مسؤولية معظمها. أما من لا يحتفي بنتائجها، فحليفٌ موضوعيٌ للطاغية العراقي السابق.
لن نزعم أن الجريمة تتمثل بحرب العام 2003، بل سنذهب أبعد من ذلك، لأن الجدل المذكور أعلاه يُغفل سياقاً متكاملاً من التدمير المنهجي، لا للدولة العراقية فحسب، ولا لنسيجها الاجتماعي فقط، بل للإنسان العراقي كذلك.
الجريمة التي ارتُكبت بحق العراق بوشرت أثناء حرب الخليج الثانية العام 1991 التي دُفن خلالها آلاف الجنود العراقيين في الصحراء نتيجة غارات أميركية استهدفت قوافلهم، أثناء انسحابهم غير المشروط من الكويت، والتي ذاب أثناءها، على سبيل المثال فقط، مئات المدنيين في ملجأ العامرية ببغداد بعدما قصفته طائرات أميركية بصاروخَين حراريين يُجربّان للمرة الأولى (ثم «اعتذرت» بعد ذلك). والجريمة تمثلت بالاستخدام التجريبي للقذائف المحشوة باليورانيوم المنضب خلال الحرب (ثم خلال حرب 2003)، والتي أنتجت آلاف التشوهات الخلقية بعدها وتسببت بتضاعف نسب الإصابة بالسرطان بشكل مخيف (من بين كل 100.000 شخص كان معدل الإصابات هو 40 قبل العام 1991، ثم صار 800 في العام 1995، ثم 1600 العام 2005، أي أكثر بأربعين مرة من المعدل الأصلي، بحسب إحصاءات رسمية عراقية أثناء حكم صدام وبعده). والحرب استُكملت بعقوبات دولية أزهقت حياة مئات الآلاف خلال سنواتها الأولى فقط٬ فقدرت منظمة «الفاو» التابعة للأمم المتحدة عدد ضحايا الحصار العام 1995 بأكثر من مليون٬ فيما نشرت «اليونيسيف» تقريراً العام 1996، يظهر وفاة 4500 طفل عراقي دون الخامسة كل شهر نتيجة المرض أو سوء التغذية. وما زال قول وزيرة الخارجية الأميركية مادلين أولبرايت العام 1996، إن قضاء نصف مليون طفل عراقي نتيجة العقوبات يمثل ثمناً مقبولاً، يلمع في الذهن، كالسكين الذي ذبح كلاً منهم من الوريد إلى الوريد. والجريمة حوّلت البلد الصناعي الذي كانت نسبة الأمية فيه شبه معدومة إلى واحد يستجدي أدوات العلم البدائية (أثناء الحصار كان يُمنع إدخال أقلام الرصاص بحجة أنها قد تستخدم لصناعة أسلحة غير تقليدية). وهي استكملت بحرب العام 2003 والاحتلال الذي تبعها، وبمئات آلاف الضحايا الذين نتجوا منها، وبفظائع أبو غريب وسجن بوكا وغيرهما مما خرّج أبو بكر البغدادي وأمثاله، وتمثلت بتفكيك أجهزة الدولة في إطار «اجتثاث البعث»، وبتسعير الطائفية ومأسستها وفق الدستور الذي صيغ برعاية الاحتلال.
الجريمة التي بوشرت قبل 25 عاماً بحق العراق هي الكبرى منذ حرب فييتنام على الأقل. وقد شكّل الخطاب المركّز حصراً على صدام حسين قنبلة دخانية هائلة الفعالية للتعمية عنها. والمخجل أن المعلومات الموثقة لها متوافرة، وأنها لا تلقى اهتماماً بحثياً يُذكر. لا يغيّر من الأمر شيئاً إن كان البعض في دول المركز العالمي، وأصداء هؤلاء في الأطراف، يتصرفون كما لو كانت الحرب قدراً، أو أن العراق استأهل الاحتلال، بغرض تحقيق خلاصه.

(65)

الأقسام: المراسل العالمي