اليمنيون في الكويت بين: الفيدراليّةِ المُقَسِمَة والوحدة الوطنية الجامعة

naser-abu-on2.jpg7772

ناصر أبو عون

أخيرًا وصل اليمنيون إلى الكويت (منهكين) بعد جولات من الحرب بالوكالة والإنابة؛ كان الشعب اليمنيّ الخاسر الوحيد فيها بعد أنْ وَقَعَت (النخبة الثقافية) في شَرَك (وهم الديمقراطيّة، وديمقراطيّة الوهم)، وصاروا (نكبَة) فانساقوا وراء دعوات الفرقة، والتقسيم، والتبعيّة، والانخراط في حرب أهلية ليجتمع على (اليمن اللاسعيد) ظُلْم “الْجَارِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنبِ” وما إِنْ وضعت هجمات دول التحالف العربيّ (أوزارها) باتفاق الهدنة، وبدء مباحثات سلام جادة تمّ تحضير اليمنيين للقبول بـ(دولة فيدراليّة) في (وجبة كنتاكي من الحجم العائليّ) تارةً، و محشوّة في (فطائر الزُّبْدة الكنديّة) تارةً أخرى، وزينة في (طبق كافيار روسيّ) – كما في الحالة السوريّة لتصل إلى (الفرقاء والمخدوعين/المستهلكين السياسيين) في النهاية على شكل نصيحة مُعَلَبةٍ وسابقةِ التجهيز في (جيب معطفٍ مبعوثٍ أُممّيّ)، ولا يدري المتناحرون على سُدّة الحُكم ما يُحَضَّرُ لهم، ولأوطانهم من مَآزقَ مستقبليّةٍ، وخرائطَ تقسيميّة في إطار اتفاقيّة (سايكس بيكو جديدة وخفيّة) محمولة على ظهر (دبابَّةِ الفوضى الخلاقة)، وفي ثنايا (خارطة التبشير بمشروع الشرق الأوسط الكبير).

 

وفي ظل منهجيّة (اللعب على المكشوف) التي يمارسها (الوصيّ العالميّ) نستغرب من إبقاء دعاة الفيدرالية العرب الأسئلة حول مخاطر الفيدرالية حبيسة في صناديق الصدور، والقعود عن مساءلة الذات وطرح الأسئلة الكاشفة من نوعيّة: لماذا يقترح علينا الأصدقاء الكنديون والأمريكيون والروس فكرة (الدولة الفيدرالية) في (اليمن وسوريا وليبيا والعراق) ومواربة، وإخفاء فكرة (المصالحة الوطنيّة والوِحدة الجامعة)؟

 

ومن ثَمّ يتوجّب على الأطراف اليمنية المشاركة في مفاوضات التسوية في (الكويت) الإجابة على سؤال: “لماذا يُصِّرُ أصدقاؤنا الكنديون والأمريكيون على (خيار الفيدرالية) الوحيد، ويغضون الطرف عن (صيغة المصالحة الوطنية والدولة الموحدة)؟ ويبدو أنّ حالة الصدام المستمر وعدم الاتفاق على معنى (الوطن) المفتعلة من جانب بعض الجهات الإقليمية والعالمية والتي تمسك بخيوط اللعبة وتؤثر في صنع القرار الوطنيّ تحول دون البحث عن صيغة مشتركة للحكم؟ مما يستوجب التوافق وسؤال الذات الوطنية عن أيّ الطرق نجاعةً لإنهاء حالة الصدام وبناء الدولة؟ والكف عن حالة الصراع والانشغال بالبحث وراء الأسئلة؟

 

في الحقيقة ليست الفيدرالية المُقَسِمة في اليمن وليدة اليوم أو الساعة؛ بل تمّ الترويج لها كنظام للحكم في اليمن منذ فترة مبكرة وتحديدًا في عام 2013 من (البوابة الكَنَدِيّة) حيث أقامت كندا شراكة مع “منتدى الفيدراليات – وهو منظمة دولية للحكم أسستها الحكومة الكندية لبناء شبكات علاقات دولية و لمشاركة الخبرة و المعرفة في مجال الفيدرالية و الحكم المتعدد المستويات – لجلب (ورش/ حلقات عمل) في التعريف بالفيدرالية إلى المدن اليمنية في (المكلا، وتعز، والحديدة، وعدن)، و هي مناطق لا يزورها عادةً الدبلوماسيون الغربيون. وفي العام نفسه التقى السفير الأمريكي السيد جيرالد فايرستاين أطرافًا من المكوِّن السياسي للمشهد اليمني فوجّه له أحدهم: سؤالا مباشرًا: “ما رأيك برؤية القاهرة التي تدعو إلى حل القضية الجنوبية من خلال إقليمين بين الجنوب والشمال تتوج بالاستفتاء ليقرر شعب الجنوب مصيره بنفسه ولماذا لا تكونوا أنتم الداعمون لهذا المشروع؟ فأجاب مبتسمًا: أتمنى أن أرى اليمن دولة فيدرالية بين الشمال والجنوب وأنا أرى أن هذا هو الحل المناسب للخروج من الأزمة الحالية التي يعيشها اليمن”.

 

ونعاود هنا التذكير بأننا أشرنا في مقالة سابقة تحت عنوان (العالم يتحضّر للاعتراف بدولة كرديّة) إلى أنَّ الأمريكيين اتخذوا قرارًا مبكرًا بإعادة رسم خارطة الشرق الأوسط وتقسيم المنطقة في شكل (دويلات صغيرة) من منطلق (عِرْقيَ)، و(مذهبيّ)، و(طائفيّ) وكان الأكراد في القلب من هذه الرؤية الأمريكية. ودليلنا على هذه الرؤية ما أكده مستشار الأمن القوميِّ الأميركيّ الأسبق “زبيجنيو بريجنسكي” في حديثه عن السيناريو المُتخيَّل مستقبلا للمنطقة في القرن الحادي والعشرين مصرحًا بأنه: “سيكون هناك شرق أوسط مُكوَّن من جماعات عِرقيّة ودينيّة تتحوَّل إلى (كانتونات) عرقيّة يجمعها إطار كونفيدراليّ بما يسمح “للكانتون الصهيونيّ” أن يعيش في المنطقة بعد أن تتمَّ عمليّة التصفية الشاملة والنهائية لفكرة القوميّة العربيّة”. ومن ثَمَّ جاءت مشاركة أكراد العراق في حرب الخليج الثانية وتعاون الأجنحة العسكرية للأحزاب الكردية (البشمركة نموذجًا) مع القوات الأمريكية في إسقاط نظام صدام حسين في ربيع 2003 بمثابة (الكلمة الافتتاحية) في تدشين (الدولة الكردية الكبرى).

 

إنَّ (الفيدرالية) التي تفرضها (الحرب الأهليّة)، و(الصراعات العرقيّة)، تعتمد على انتزاع السلطة بالقوة من سائر المحافظات التي ستكون تابعة عنوة للحكومة الفيدرالية؛ بل إن الفيدرالية ستنثر بذور (شجرة الفرقة والتقسيم) التي سرعان ما تنبت وتتفرَّع مستقبلا لتؤسس لتقسيم قادم ونشوء دويلات صغيرة على شكل نتوءات في جسد الدولة الفيدرالية المهترئة. ومن ثَمَّ فإنه يمكننا التذكير هنا بأنَّ (الفيدرالية) المفروضة بوصاية استعماريّة أو أُمميّة سوف تكون (منزوعة القرار الوطنيّ)، وسوف يستغلها المستعمرون للاحتفاظ بمناطق نفوذ لهم، ووصاية طويلة الأمد كما في حالة (الدبّ الروسي في سواحل سوريا الدافئة) والذي يقدم للمتناحرين عسكريًا، والمتناوئين سياسيًا الفيدرالية كـ(خيار وحيد) بهدف تأمين مكتسباته – وفقَ تعبير  إبراهيم فريحات أستاذ الأزمات الدولية في جامعة جورجتاون – الذي أكد أن “هناك مكاسب أخرى حققتها روسيا من عمليتها العسكرية في سوريا مثل تعزيز إطلالتها الاستراتيجية على البحر المتوسط من خلال قواعدها العسكرية ونشر صواريخ متطورة مثل نظام S-400، مؤكدًا أنّ ” أي فيدرالية قد تنشأ بعد الصراع الدموي الذي استمر أكثر من خمس سنوات حتى الآن قد تشكل بداية حقيقية لتقسيم سوريا، إذ لن يكون من السهولة بمكان تجاوز التاريخ الدموي الفيدرالية في هذه الحالة قد تتحول إلى “تقسيم مقنع″ قد يزول القناع عنه في السنوات القليلة التي تلي أي اتفاق، لتتحول إلى تقسيم حقيقي”. فأي فيدرالية قد تنشأ في سوريا في هذا الوقت ستكون قائمة على أصول عرقية وطائفية وهو ما سيضعف الدولة إستراتيجيا وبنيويا. والفكرة نفسها طرحها الباحث في القانون الدستوري محمد حسن بقوله: “إنَّ الروس يريدون الحفاظ على قواعدهم في الساحل السوري ولذلك فإن أفضل حلٍّ لهم هو الحفاظ على الأسد في منطقة الساحل ودمشق على الأقل”، والنظام الفيدرالي سيضمن لهم ذلك نوعا ما”.

 

والحقيقة الموجعة التي يتوجب أن نعيها جميعًا، وخاصةً شعوب بلدان مثل اليمن وسوريا وليبيا التي أكلت الحرب الأهلية كل عناصر اللحمة الوطنية التوجّه نحو إقرار نظام فيدرالي سينثر (بذور الفرقة)، ويغذي (الصراعات العرقيّة) ويُعدُّ مقدمة دراميّة (للتجزئة والتقسيم) نظرًا لما يحتوي عليه من قنابل موقوتة، ويمثل ضغوطًا مباشرة على المواطنين، وسوف يكون الانفجار بعدها عظيما حيث إنها ستنطوي على تجميع (متناقضات القوميات) في سلة واحدة.

 

والنظام الفيدراليَّ المقترح من قِبَل (الكنديين والأمريكيين في اليمن)، ومن قِبل (الروس في سوريا)، لا ينسجم مع طبيعة (اليمن) ولا يصلح في (ليبيا)، ولا يناسب (سوريا)، لأن مكونات هذه (المجتمعات البشرية) تنطلق في مصالحها من الانصياع (للطائفة)، و(القبيلة)، وتحمل مشاريع تقسيميّة، وسوف تُعمِّقُ الفيدراليةُ (الرؤية القبليّة والعشائريّة والطائفيّة والمذهبيّة) أكثر وأكثر وسوف تبدأ عملية تملُّص الطوائف والقبائل من النظام الفيدرالي مع الاصطدام بالإشكاليات التالية:

 

أولا – سيبدأ الخلاف يدبّ بين حكومات الأقاليم والحكومة الاتحاديّة عندما (تتعارض القوانين التشريعية) بين (صنعاء، وحضرموت، وتعز) في الحالة اليمنية، وبين (دمشق، وحلب) في الحالة السوريّة) فضلا عن تقاطعها مع بعض مواد مع دستور الحكومة الاتحاديّة).

 

ثانيًا – سيتعاظم الخلاف والذي قد يتطور إلى نزاع مسلح عندما تقوى سلطة أي إقليم خاصةً إذا كان مرتبطًا بأجندات خارجيّة وعلاقات استراتيجية (ارتباط جماعة هادي بالسعودية، والحوثيين بإيران نموذجًا) ومع نمو وتعاظم قوة الإقليم العسكريّة سوف تبدأ في مناطحة السلطة الاتحاديّة العليا؛ بل والخروج عليها مما ينتج عنه تفتيت الوحدة الوطنية.

 

ثالثًا – سوف تنهار الدولة الاتحاديّة عند أول خلاف قضائي على حكم في قضية (ما) حيث يكون لكل إقليم نظام قضائي وتشريعات قانونية تختلف عن الأقاليم الأخرى، وسوف تسوء الأحوال عندما تتعارض أحيانًا مع الدستور الاتحادي.

 

رابعًا – إذا ما نشب خلاف بين الدولة الاتحاديّة ودولة أخرى وأوجد أحد الأقاليم لنفسه الحق في التعاطف مع الدولة الأجنبية أو التوافق معها سوف يصطدم مباشرةً بالدولة الاتحاديّة التي قد تضطر إلى توسيع صلاحياتها لمواجهة أعدائها، وقد يخرج على سلطتها ومع وجود (عَلَم مستقل)، وحدود معترف بها دوليًا، وتشريع خاص، وحكومة منفردة ومنتخبة تتمتع بكامل الصلاحيات سوف يشرع في الانفصال مباشرةً عن الدولة الاتحاديّة الأم، وقد يدخل معها في صراع مسلح لصالح الدولة الأجنبيّة.

 

خامسًا – لن يتمكَّن أيّ إقليم من إنجاز أيّة مشاريع أو التقدّم بأيّة مبادرات إصلاحية أو تنموية دون الحصول على موافقة صريحة من برلمانات وحكومات الأقاليم الأخرى كافة والتوافق مع الحكومة الاتحادية حول بنودها. وهذا سيؤدي إلى ظهور دعوات انفصالية داخل كل إقليم.

 

سادسًا – ينطوي النظام الفيدرالي على مجموعة من الأمراض والمخاطر التي لا تتناسب مع أوضاع سوريا واليمن وليبيا من أهمها: (ارتفاع النفقات الحكومية وزيادة التضخم في ميزانيات الأقاليم والحكومة الاتحادية، وضعف الرقابة المالية والإدارية مما يشجع على انتشار الفساد الإداري، وتنامي (القبلية والطائفية والجهوية) ونشوء الدعوات الانفصاليّة، زيادة في عدد المؤسسات الحكومية وازدواجيتها، وتضارب القرارات الإداريّة، وبطء الإجراءات الحكوميّة. إلخ من المشكلات البيروقراطيّة).

 

وأخيرًا فإنّ القرار أمام اليمنيين للتملُّص من المؤامرة والفكاك من الفخاخ الدولية والإقليمية المعدّة لهم سلفًا بالتوجه نحو استراتيجية لإنقاذ اليمن وإقرار نظام حكم وطني وتوافقي ينطلق من:

 

أولا –  إقرار مصالحة وطنية تنشأ على مبادئها (دولة مركزيّة واحدة جامعة) وبشراكة لجميع ألوان الطيف اليمني في حكومة وحدة وطنية).

 

ثانيًا – إقرار قاعدة (اللامركزية الإدارية) بهدف التمهيد لـ(نظام لا مركزيّ شامل) يقوم على قاعدة “توزيع الوظيفة الإدارية في الدولة بين الـحكومة الـمركزية وبين هيئات مـحلية مـختلفة منتخبة ومنتمية إلى الـمجتمع الـمحلي فانتخاب هذه الهيئات المحلية هو الذي يضمن استقلالية هذه الهيئات عن السلطة المركزية”. وتتمتع الهيئات المحلية بالشخصية الـمعنوية أو القانونية وتكون مستقلة عن السلطة المركزية في ممارسة وظيفتها واتخاذها القرارات الإدارية، تـحت وصاية وإشراف الـسلطة الـمركزية ورقابتها. وهذه الوصاية هي التي تحافظ على وحدة الدولة إذ في حال استقلت الهيئات المحلية استقلالاً كاملاً عن السلطة المركزية تحولت اللامركزية الادارية إلى لامركزية سياسية وبالتالي تتحول الدولة الموحدة إلى دولة اتحادية”.

 

ثالثًا – بعد سنوات طوال من تطبيق (اللامركزية الإداريّة) سيذهب اليمنيون راضين إلى خيار (الدولة اللامركزية) كنظام للحكم وهي صيغة تفرضها (حالة التوافق)، و(التعايش السلمي)، و(ضمانة لحق القوميات، والطوائف، والقبائل في إدارة شؤونها بنفسها)، مع بقائها ضمن إطار (دولة اتحاديّة لا مركزيّة) تمسك البلاد بقبضة صُلبة كما هو حادث في (جمهورية الصين الشعبيّة) حيث يفرض الدستور الاتحادي سلطته على جميع مواطني المقاطعات، دون الرجوع إلى موافقة السلطات المحلية.

 

باحث بمركز الدراسات والبحوث – مسقط

(36)

الأقسام: آراء