قراءة في فكر الأستاذ محمد المنصور   (الحلقة الثانية)

المراسل: يحيى اليازلي

 

فلسفة الرحيل (2):

تمتصني أمواج هذا الليل في شرهٍ صَموت

وتعيد ما بدأت وتنوي أن تفوت ولا تفوت

 

فتثير أوجاعي وترغمني على وجع السكوت

وتقول لي: مت أيها الذاوي فأنسى أن أموت..

 

لكن في صدري دجى الموتى وأحزان البيوت

ونشيج أيتامٍ بلا مأوى، بلا ماء وقوت.

لقد لاح دجى الموتى وأحزان البيوت لدى البردوني وكذلك الكآبة والأسى و الاختناقات والزحام وكل الأشياء السوداء التي تنم عن تشاؤم  فظيع.. من حيث أنه جو النص ومن حيث أنه نتيجته؛ التشاؤم المنبعث من أبيات البردوني هو ذاته التشاؤم الذي كان من أهم أجواء او بواعث أدب أبي العلاء المعري وطه حسين، وهو في نظر بعض النقاد متلازمة معظم نتاج المبدعين في عدة مجالات، غير أنك حينما تقرأ أدب عباس محمود العقاد ستجد أنه لم يكن متشائما، وكان ينظر في حياته الإبداعية إلى الأشياء بنظرة تفاؤلية، فالتشاؤم عائق للرؤية.. ومعروف عن العقاد أنه كان يتخذ تمثالا مجسما لطائر البومة على مكتبه، كاسرا بذلك ثقافة معشعشة في أدمغة المجتمعات من أن البومة نذير للڜوم.

شاعرنا المنصور لم تتخذ ثقافة التشاؤم إلى فلسفته سبيلا:

كيف لا تتعب الكلمات

من نشيد الموت اليومي الممل

كيف لاتمل آذاننا الكثيرة

من أنباء موت واحد يتكرر

نشاهده على مدار اللحظة.

لقد كسر الشاعر المنصور حاجز الرهبة من الموت، وفي كثير من نصوصه الشعرية ما يشير إلى أن الموت في فلسفة محمد المنصور شيء عادي، إلا أنه إن كان له نهاية بلحظة ما، واللحظة لديه ساعة ويوم وعام وقرن فإنها بداية لحظة أخرى جديدة.

وفي نفس النص الذي رثى به صديقه إسماعيل الوريث يقول:

نحتفل بموتنا المؤجل

حينما نشيع آخرين .

فموت الآخرين الذين ماتوا هو موتنا غير أنه بداية الكرنفال المتماوج في الطريق الذي يعبره جمهور الموتى المشيعين، ونحن أما في وسطه وأما في آخره.

حيث تكون الحقيقة يكون الموت للأسف..

هذه العبارة جزء من مرثاته للوريث، وإذا فحيث تكون الحقيقة يكون الموت.، فالحقيقة هنا كما يحكي محمد المنصور رفيق الموت وقرينه، إن لم تكن من جنسه.. الحقيقة والموت صنوان لا نقيضان.

وفي نفس النص يحاكي الوريث وكأنه شاخص أمامه لم يمت، فيقول له:

كان الله يعرف أنك طيب

وأنك ستعود إليه في أي لحظة

أشعر بأن المسافات تقل

ونحن نشيخ في الإنتظار .

إن الموتى في عرف المنصور للطيبين وأن لا مسافة تطول إليه.

الموت إستشهادا أناقة وهيبة، يجب أن يأتي منسجما وموائما لسيرة صاحبها الأنيقة إذا جاز التعبير. وإلا فقد وصف الشاعر المنصور موت الشهيد محمد عبد الملك المتوكل بأنه موت يليق بحياته ومعروف عن حياة محمد عبد الملك المتوكل أنها حياة نضال وإنسانية مبذولة في سبيل العدالة والحرية، وقد رثاه محمد المنصور بالقصيدة تحت هذا العنوان “موت يليق بك”.. وقال:

وانت أيها الدكتور المتوكل المبتسم دائما.

وإذا فحياة الدكتور المتوكل كانت تتسم على الدوام بالإبتسامة ولهذا كانت الشهادة جزاء لها لأن الشهادة في كل الأديان مرحب بها لأنها إختيار السماء حيث الإبتسامات الأبدية تنتظر الطيبين.

 

كاريزما:

وأنا أتصفح التغريدات الأسيفة ومنشورات الرثاء وبيانات النعي وكلمات التعازي لوفاة الأستاذ الشاعر الكبير محمد المنصور رحمه الله وجدت أن معظم الذين نشروا ذلك قامات في الأدب والصحافة والسياسة اليمنية وهم من مختلف الطوائف والاتجاهات والتيارات الفكرية.. وهذا يعني أن الأستاذ الكبير محمد المنصور شخصية وطنية عليها إجماع كبير ويمتلك كاريزما عالية ومحبة يشترك فيها كل من عرفه مما يدل على أنه كرس حياته لإيجاد فكر أخلاقي مؤثر تأثيراً إيجابياً على الصعيد الفكري والعملي ليكون بعد ذلك قدوة حسنة في التقريب بين الأطراف المختلفة وأوجد خطا مشتركا يسير عليه الجميع دون احتدام واختصام.

واذ هو كذلك استطاع المنصور أن يوجد له مكانة إنسانية واسعة وكاملة يحترمها الجميع، مثله مثل الشهيد عبد الكريم الخيواني وكذلك الشهيد أحمد شرف الدين وكذلك الشهيد جار الله عمر وغيرهم ممن  كان حضورهم مهما لرأب الصدوع وتطبيب الجروح ولم الشمل وإيجاد خط أخلاقي مشترك يمكنه استيعاب الجميع؛ مع كون الخيواني إعلاميا وشرف الدين قانونيا وجار الله عمر سياسيا إلا أن كلا منهم تجاوز دائرة انتمائه الحزبي والفكري إلى دائرة الوطن للجميع.. وكذلك محمد المنصور وهو شاعر، إلا أنك ستلاحظ من خلال مسيرته الأدبيه والصحفية أنه رجل استثنائي ومرحب به من الجميع. لقد كان محمد المنصور ثائرا ضد الظلم والفساد بأسلوب أخلاقي وفلسفي خاص، فلم نسمع له في خطاباته وتصريحاته وكتاباته  النقدية والأدبية ألفاظا نابية أو بذيئة. كان ينتقد ويوجه انتقاداته بموضوعيه بحتة وتهذيب عال. لقد كان محمد المنصور شخصية ثقافية وفكرية مهم  عند الجميع.

كانت كلمات التعازي المعبرة عن الوجع والحزن لرحيله وفاجعة فقدانه تأتي من أنقى الأماكن في قلوب أصدقائه ومعارفه ومتابعيه. لقد رحل عنا وهو في أوج عطائه الفكري والإنساني في الخمسينات من عمره.

 

 

مؤسس جيل التسعينيين:

عرف عن الشاعر محمد المنصور في جانب الأدب أنه شاعر وناقد رائد لما يسمى بالأدب التسعيني، وذلك واضح من خلال شهادات شعراء ونقاد كبار ومن خلال قصائده التي تصف نفسها بأنها متفردة ومميزة بثقة وإبداع مميز، وأنها عرفت عن شاعر يعتبر مؤسسا لمدرسة أو لتيار شعري جديد؛ ومن أهمهم عبد الحفيظ الخزان؛ والخزان شاعر وناقد كبير وفي الوقت الذي يعتبر التسعينيون يعني أن قصيدة النثر التي بلغت أوجها من النضج عند فرق ما يسمى بالتسعينيين أو جيل التسعينيات إلى حد أنهم جعلوها معيارا للحداثة، في حين يعتبر عبد الحفيظ الخزان بتصرف أن المنصور هو الوحيد الذي استطاع أن يخرج من بوتقة ما يسمى القصيدة النثرية كشاعر متمكن.. وقال الخزان تحديدا  “كان محمد المنصور الوحيد الذي استطاع أن يصل إلى مبتغاه في كتابة النص النثري الطويل بتجربة واعية صقلتها المحاولات الطويلة ودفعها التصميم والإرادة وأنضجها الإصرار.”

نستطيع استنباط مفهوم محمد المنصور للقصيدة الحديثة من عدة طرق أهمها نصوصه الشعرية وكذلك نصوصه في نقد الشعر؛  أو ما أسماه الشاعر محمد العابد بالنص الموازي.. وكذلك رأي النقاد عن كتاباته.

وفي حوار صحفي ثقافي أجراه الشاعر والناقد علي جاحز في العام 2008 م، مع شاعرنا الكبير الأستاذ محمد يحيى المنصور يمكننا من خلالها أن نعرف فوائد جمة متعلقة بجوانب الشعر ومدارسه وأسباب نشوئها والإحاطة برؤية كاملة حول مفاهيم أدبية عديدة منها الحداثة والتأثير والتأثر والتجديد.. والحداثة برأيي هي ولادات فكرية جديدة خالقها إنسان مبدع.. ما بعد الحداثة لا ينبغي إلا أن يكون تنمية فكرية وإلا فهو حمل خارج القلم. وفي الحوار نستكشف الرائي المنصور ومنظوراته الفلسفية العميقة التي لا تقوم إلا على وعي علمي ومعرفي وثقافي، ذلك ما تصفه أطروحاته، وهي تركته ولا يستطيع وصف صاحبه معرفيا إلا تركته، التي هي مشروعه للمستقبل، هذا المشروع وكل المشاريع الفكرية ليست أكثر من تركة فكرية لصاحبها تصبح فيما بعد ثروة ثقافية قومية وتتجاوز القومية إلى الإنسانية، والفائدة الأولى التي رأيناها في ذلك الحوار الممتع هي أنه حين تكون مرجعية الشاعر قوية تكون شخصيته متينه وقوية، هذه الشخصيه في ذاتها ستكون مرجعية لشخصية إبداعية تأثرت بها، وعلى ذلك فقس.

الحوار الذي أجراه علي جاحز مع محمد المنصور حول الشعر الجديد والمدارس أو التيارات الشعرية الجديدة التي نشأت في اليمن في فترة التسعينيات.. وجرى خلال الحديث استعراض الحركات الشعرية في الثمانينيات والسبعينيات والستينيات، وكذلك شعر الألفية. وفي اعتقادي هو أهم حوار أجري في تلك الفترة ويظل مهما إلى هذا الحين والدليل أنني أستفيد منه حتى اللحظة في أبحاثي حول الحركات الشعرية في اليمن وخاصة شعر المقاومة والشعر المناهض للعدوان. ويلخص عدة مفاهيم، خاصة وأن الحوار جاء من ناحية مع أحد أهم شعراء اليمن في زمننا ومن ناحية أخرى أن الذي أجرى الحوار علي جاحز وهو من أهم الشعراء التسعينيين أيضا.

وقد جاء الحوار مشبعا بما تحتاجه المرحلة من إيضاحات.. وكانت أسئلة الشاعر علي جاحز ذات جانبين جانب استبطاني حواري لا يعود إلا محملا بالكثير مما في كوامن الأستاذ محمد المنصور، وجانب آخر كانت أسئلته تطرح رؤية نقدية مهمة لو بقت بدون إجابة لأشبعت جانبها المهم. وقد حملت تلك المحاورة الأدبية الكثير من القضايا.

في الحوار الذي أجراه الشاعر علي جاحز مع الأستاذ محمد المنصور رحمه الله سنتوصل إلى خلاصات وفوائد منها أسس تكوين الشاعر المبدع وتكوين الحركات الجديدة.. والجميل في الحوار أنه جاء بين شاعرين كبيرين لدى أحدهما سؤال وفيه إجابات ولدى الآخر إجابات وفيها تساؤلات، فجاء الحديث مشبعا ومحيطا بكل ما يحتاجه المشهد الشعري؛ الحوار حميمي ودافئ وجدانيا تلمس فيه محبة كبيرة متبادلة بين الشاعرين ومحبة أكبر يوليانها للشعر والشعراء. ولا يشبه هذا الحوار الجميل إلا ثرثرات في شتاء الأدب العربي، والذي جرى بين الشاعرين الكبيرين عبد الله البردوني وعبد العزيز المقالح على متن طائرة ربما في الثمانينيات، نوقش خلاله أشياء كثيرة متعلقة بالشعر العربي في تلك الفترة.

ويمكن استخلاص فوائد كبرى من هذا الحديث الثنائي الجميل والذي كانت مقدمته التي صدرها جاحز كافية لتقديم نبذة عن الشاعر المنصور كرائد من رواد الشعر الحديث ومؤسس لجيل التسعينيات، وقد طرح في  المحور الأول أن للمرجعية دورا مهما في تشكيل شخصية المبدع وهذه أهم وأول فائدة تعلمناها هنا.. وعلى ذلك فإن رواد و مؤسسي المدارس الشعرية في العالم لا شك أنهم كانت مرجعياتهم الثقافية والفكرية قوية ومعظمها مرجعيات علمية وفلسفية ودينية.

ويؤكد المنصور أن التتلمذ على القرآن والثقافة العربية والإسلامية هو أساس نشوء المدارس الفلسفية في العالم. وكذلك أشار إلى أن تأثير القرآن الكريم على اللغة العربية هو ما جعلها أكثر هيمنة على الحياة الثقافية والاجتماعية في العالم، وهذه فائدة ثانية، وهي أن قوة اللغة لها تأثير  كبير على الفكر والتفكير.

حينما نعرف أهميه العوامل التي أدت إلى تكون الجيل التسعيني سنعرف بالتالي أهم عوامل تكون التيارات الأخرى والإجابة عن ذلك باختصار من خلال كلام المنصور وبتصرف أن القضايا والمرجعيات لدى جيل التسعينيات غيرها عما كان لدى جيل الثمانينيات والسبعينيات والستينيات. وأن الانهدامات الكبيرة كما يقول لما سمي باليقين والقضايا الكبرى وانكسار المشروع القومي والأممي التحرري، كل ذلك أدى لتغير في الإنجاز، غير أن ثمة أمور حصلت في اليمن كما فهمت أدت إلى ظهور هذا الجيل التسعيني بشكل أقوى مما هو عليه في الوطن العربي من ضعف أهمها الوحدة اليمنية وحرب الخليج.

الفائدة الثالثة هي حدوث وحدة في اليمن ساهمت بدرجة كبيرة في ظهور جيل شعري تسعيني في اليمن أقوى من غيره في المنطقة العربية.

وفي نفس السؤال تظهر لنا فائدة رابعة في نفس المحور وهي أنه من أهم عوامل ظهور جيل التسعينيين توفر وسائل النشر الالكترونية وأماكن إقامة الجلسات والفعاليات الثقافية.

وهناك سؤال طرحه جاحز عما الذي أحدثه جيل التسعينيات على مستوى النص الشعري في اليمن؛ فقال أن ذلك لن يتم تقييمه قبل مرور فترة تسمح باستيعاب أثر كل الموجات التسعينية وهنا نستنتج فائدة خامسة من كلام الأستاذ المنصور وهي أن تقييم أي حركة أو جيل يحتاج إلى فترة لاستيعاب أثر كل موجاته.. بما يعني أن كل حركة يكون داخلها موجات بالضرورة..

وعلى هذا فإننا لن نستطيع تقييم تأثير حركة شعراء القرآن أو الشعراء القرآنيين إلا بعد مرور فترة لكي يتم استيعاب كل موجاتها،. وعلى ذلك يجب أن نبحث في مكون حركة شعراءالقرآن لكي نعرف موجاتها وندرس أثر كل موجة حتى نقيم الحركة ولو بعد حين. غير أني أعتقد جازما أن تقييم حركة شعراء القرآن التي ظهرت في هذه الفترة فترة مواجهة العدوان ممكنة الآن وبنسبة كبيرة لكون الحركة ذات مرجعية واحدة على عكس جيل التسعينين التي تتسم بأنها ذات مرجعيات متعددة. لكن ذلك يحتاج إمكانيات كبيرة أهمها توفر المعلومة وأدوات البحث..

(10)

الأقسام: تقارير المراسل