يروون قصصهم بالدموع: سجناء معسرون في غياهب السجن والنسيان فمن يشتري حريتهم؟

صحيفة المراسل |صنعاء| فاروق علي:

في الوقت الذي يحاول فيه المعتدين على اليمن تحويل البلاد إلى سجن كبير يضيق بالناس، بينما يجاهدون للبقاء على قيد الحياة وتدبير احتياجات العيش. من قبل هذا الأمر بزمن طويل، هناك من تقطعت بهم السبل، وأطبق عليهم اليأس، وأصبحوا بفعل مأساتهم جدرانا بشرية ملقى بها وراء الجدران والقضبان.

المعسرون سجناء جار عليهم الزمن، منهم من اخطأ ودفع ثمن ذلك سنينًا غالية من عمره، ومنهم من تغلبت عليه صعوبات الحياة فكان السجن مأوى خسارته، لكن ما يجمعهم هو أن الحرية ممكنة لهم بشرط وحيد يتمثل فيدفع ما ألزمتهم الأحكام القضائية  بحقهم من مبالغ مالية مضافة لعقوبة سجنهم أو بدونها. ولأن الإنسانية والأديان  ومنها ديننا الإسلامي  وضعت الحرية حقًا مكفولًا لكل إنسان، أصبحت الحرية حقًا مشروعا للسجناء المعسرين في اليمن، يكفلها القانون وتنص عليها الشريعة، كان لزامًا على الدولة والمجتمع العمل من خلال مؤسسات وجهات مختصة بتفريج عسر السجناء ودفع غراماتهم، ليعودون كمواطنين صالحين داخل المجتمع، لكن وللأسف فإن عمل المنظمات والمؤسسات في هذا الشأن تحول إلى عمل صوري وشكلي لم ينتج عنه سوى مساعدة القليل جدًا مما تدعي أنها حققته بالفعل، عدا تحولها عن مسارها بمخالفة مبادئها والارتزاق على حساب حياة وحريات المظلومين المعسرين لتحرمهم من العودة لأسرهم التي زادت حاجتها إليهم في ظل الظروف الصعبة التي يعيشها البلد من الحرب والعدوان.

في السجن المركزي بصنعاء الذي زارته “صحيفة المراسل” العشرات من القصص الإنسانية لأشخاص يقبعون خلف القضبان منذ سنين طويلة بعضهم تجاوز مدة الحكم عليه بعدة أضعاف غير أن الفقر هو ما أبقاه خلف القضبان بعيداً عن عائلته وأطفاله أو والديه المسنين دون عائل بعضهم تحولوا إلى متسولين في الشوارع والتقاطعات في ظل غياب معيلهم، فيما يحتضن السجن المركزي أشخاصاً آخرين مضى على دخولهم السجن عشر أو خمسة عشر سنة فقدوا خلالها أمهاتهم وآبائهم الذين قضوا نحبهم فيما أبنائهم يقبعون في السجن على ذمة حفنة من الأموال لكنهم يقفون عاجزين عن تدبر أمرها لشراء حريتهم والعودة إلى أطفالهم ونسائهم ووالديهم.

ونظراً لإنسانية هذا الملف والذي ربما يحتاج لتسليط الضوء عليه فإن “صحيفة المراسل” تنشر على شكل حلقات متسلسلة فهناك قصص إنسانية ربما لم يعرف بها من هم قادرين من التجار ورجال الأعمال على شراء الحرية لهؤلاء المساكين لوجه الله، فقد كانت كلمات المسجونين الذين التقتهم الصحيفة مؤثرة الغاية والبعض منهم كان يشدد على الصحيفة ألا تنساه لكثرة ما مرت عليه منظمات ولجان لكنها عادت وجعلت من قضيتهم طي النسيان فيما يكابدون آلام السجن وآلاف الفراق عن عائلاتهم وآلاف فقدان الحرية لسنين طويلة.

في هذا التقرير الإنساني تبدأ “صحيفة المراسل” نشر   نماذج من المعاناة والعجز الذي ألم بالسجناء المعسرين في حلقات متسلسلة.

 

حمّال يحمل السجن في داخله

لحظة تهور لن تكون لحظة عابرة، فقد تؤدي لدفع عمر كامل ثمنًا لها!.. فتصبح الحياة لون واحد عنوانه الندم والتوبة اللامستجابة, وإن استجابها الله عز وجل, فإن العالم لا يقبل إلا القصاص ولو بسلب أكثر من حياة!.. هذا ما حدث في قصة السجين خميس عبدالله من ابناء محافظة الحديدة الذي دفع حياته وحياة زوجته ثمنًا للحظة ندم عليها، لكن حين لا ينفع الندم، ولا يغفر لك الناس ولا القانون.

تشردت أسرتي واضطر ولدي الصغير للعمل لإعالة أختيه وجديّه وأصبح اعتمادهم بشكل كلي عليه والمعونات النادرة

في السجن المركزي بصنعاء التقت “صحيفة المراسل”  السجين “خميس” الذي  يبلغ من العمر الآن قرابة الخمسين عام يقبع خلف جدران السجن منذ  2010 أي 9 سنوات منذ جيء به إلى السجن على خلفية ارتكابه جريمة قتل يقول إنها كانت دفاعاً عن النفس والعرض ولذلك حكم عليه بالسجن لمدة ثلاث سنوات ودفع دية لأولياء الدم قدرها 5 مليون ريال، ولكن أنى لخميس ومن مثله أن يوفر مثل هذا المبلغ الذي لو كان بمتناوله لما قضى جل عمره يعمل حمالاً في ميناء الحديدة.

كان خميس يعمل حمالا في الميناء بالإضافة إلى عمله على دراجته النارية، بذلك كان يوفر لقمة عيشه واحتياجات أسرته البسيطة، لكنه ومنذ أن دخل السجن توقف كل شيء، لقد تشردت أسرته واضطر ولده الصغير للعمل لإعالة أختيه وجديّه، لقد أصبح اعتمادهم بشكل كلي على ولده الصغير والمعونات النادرة, التي يعتبرها خميس لو وُجهت لدفع ما عليه, لتمكن من رفع المعاناة عن أسرته ولاستطاع إنقاذ زوجته من حكم الموت الذي طالها بسبب سجنه.

يحكي خميس قصة موت زوجته والدموع تنهمر من عينيه بلا توقف، لقد عانت من فشل كلوي لمدة طويلة بعد سجنه دون أن تحصل على مساعدة أحد

ويروي “خميس” حكايته بنفسه قائلاً : كنت اعمل حمالا في ميناء الحديدة واعيش مع اسرتي لكنني تضاربت انا وشخص تهجم عليا أكثر من مرة الى امام البيت وفي المرة الأخيرة اقتحم حرمة البيت فدافعت عن نفسي وقتل على إثر ذلك فحكم عليّ ثلاث سنوات سجن ودية تبلغ خمسة مليون وخمسمائة الف لكني لم اتمكن من دفعها وعليه قضيت حتى الآن تسع سنوات سبع سنوات ونصف في السجن المركزي في الحديدة وسنة ونص هنا في صنعاء”.

السجين خميس يروي للزميل فاروق علي كيف انتهى به الحال إلى السجن

ثم يحكي خميس لنا قصة موت زوجته بحرقة شديدة والدموع تنهمر من عينيه بلا توقف، لقد عانت من فشل كلوي لمدة طويلة بعد سجنه دون أن تحصل على مساعدة أحد، واستمرت معاناتها وتضاعف مرضها حتى وافتها المنية إثر جلطة أراحتها من عذاب الدنيا ومرارة المرض وفقد الزوج وذل الحاجة، كان ذلك قبل خمس سنوات، لكن خميس لا يزال يتألم لفراقها وعدم قدرته على إنقاذها عدا وداعها الذي يسجنه كل يوم في سجن العجز والحزن والندم.

لقد أصبحت أمنية خميس بأن يعود لأسرته كحلم لا يراه حتى في مناماته الممليئة بكوابيس السجن مدى الحياة، الأسرة المعدمة لا تملك من الدنيا إلا خميس وما كتبه لها القدر من بؤس خميس وقضيته.
ويختم خميس حديثه لصحيفتنا بدعوة يعتقدها مؤجلة وغير ممكنة لمساعدته والإفراج عنه, ولو ليوم واحد يرى فيه أمل الحياة والعودة إليها بذكريات تحمل الحلم بإنقاذ أولاده الموجوعين بغيابه.

وفيما انتهينا من تسجيل الحوار معه، كان خميس يردد بحزن رجاءه بأن نساهم في إيصال قضيته للناس لعل الجهات المعنية تتكفل بمنحه الحرية من جديد أو فاعل خير يلتفت إليه ويتبرع بمبلغ الدية كي يلتم شمله من جديد من أبنائه الذين يعانون في غيابه وبعد وفاة والدتهم.

 

نقاط مضيئة: هيئة الزكاة والتجار يحررون 250 سجيناً معسراً

فيما يضم السجن المركزي عشرات الحالات من المعسرين إلا أن السجن شهد خلال الفترة الماضية لحظات سعيدة للمئات من المعسرين الذين التم شملهم بعائلاتهم واستعادوا حريتهم بعدما قضوا سنوات طويلة داخل السجن كان يمكن أن تمتد إلى ما لا نهاية بعدما تكفلت جهات حكومية ورجال أعمال بدفع ديون وديات كانت تحول بين المعسرين والخروج من السجن.

يقول اللواء عبدالله محمد هادي رئيس مصلحة السجن المركزي بصنعاء لـ”صحيفة المراسل” إن الهيئة العامة للزكاة التي تم إنشاؤها قبل عام بدأت منذ تدشين عملها بتركيز جانب كبير من جهودها لمساعدة المعسرين في السجون، موضحاً أن الهيئة دفعت 450 مليون ريال للمعسرين السجناء على دفعتين، حيث تم في الدفعة الأولى الإفراج عن قرابة 100 سجين معسر بعد دفع ما عليهم من ديات ومديونيات والدفعة الثانية ضمت 57 سجيناً معسراً تم الإفراج عنهم.

وأضاف اللواء الهادي أنه بعد دعوة قائد أنصار الله السيد عبدالملك الحوثي لرجال الأعمال بتبني قضايا المعسرين قام مجموعة من التجار بدفع الديات والمديونيات عن 47 سجيناً معسراً فيما بادر رجال أعمال وتجار بشكل فردي بدفع مديونيات والديات عن 40 سجيناً معسراً تم الإفراج عنهم جميعاً.

ولفت اللواء الهادي أن الهيئة العامة للزكاة تعد حالياً لإخراج دفعة جديدة من السجناء المعسرين بدفع ما عليهم لإخراجهم من السجن ولم شملهم بعائلاتهم.

(149)

الأقسام: الاخبار,المراسل العام,اهم الاخبار,تقارير المراسل,عاجل

Tags: ,,,,,,