صحيفة المراسل تستعرض العلاقات التطبيعية بين النظام السابق و”إسرائيل” من شهادات الصحف المحلية

المراسل | تقرير

صدمت الوثائق التي كشفتها القوات المسلحة العام الماضي حول علاقات النظام السابق في اليمن بالكيان الصهيوني، الكثير من المتابعين، لما احتوت عليه من فضائح تؤكد أن محاولات التوغل الإسرائيلية في اليمن بدأت في وقت مبكر جدا، وأن النظام الذي حكم البلاد لعقود لم يكن في الحقيقة يختلف كثيرا عن الأنظمة الخليجية التي نشاهدها اليوم ترتمي بشكل فاضح في حضن العدو الصهيوني، انطلاقا من كونها أداة في مشروع الوصاية الأمريكية الإسرائيلية على المنطقة.

وعلى الرغم من المفاجأة التي أحدثتها الوثائق، إلا أن ما احتوت عليه لم يكن في الحقيقة سرا كبيرا، فعندما عادت صحيفة المراسل إلى جزء من الأرشيف الصحفي اليمني خلال جزء من العام 2000 فقط، وجدت الكثير من الأخبار والمواد التي تؤكد أن ما كان يجري بين نظام “صالح” والكيان الصهيوني، كان قد خرج بشكل واضح إلى العلن، وتناولته العديد من الصحف المحلية آنذاك، بل وصل إلى قاعة البرلمان اليمني نفسه، الأمر الذي يؤكد صحة الوثائق التي نشرتها القوات المسلحة، ويؤكد أيضا على أن العلاقات بين النظام السابق والعدو الإسرائيلي كانت قد وصلت في ذلك الوقت المبكر إلى العمق بما يكفي لأن تتجاوز حاجز السرية.

فيما يلي تتبع صحيفة المراسل بعض ما نشر في عدد من الوسائل الإعلامية والصحف المحلية خلال عام 2000، وبالذات حول زيارات الوفود الصهيونية إلى الأراضي اليمنية:

خلال ابريل 2000 بدأ توافد السياح الاسرائيليين إلى اليمن وعدن تحديدا فيما سمي حينها بالتطبيع السياحي والذين دخلوا البلاد بجوازات سفر اسرائيلية (صحيفة الأمة العدد146 بتاريخ 21ابريل2000 وصحيفة الوحدوي العدد 413 في 4 ابريل، والعدد التالي في 11 ابريل  )، وتخلل ذلك عودة أسر يهودية الى عدن بعد ان كانت قد تركت المدينة وهاجرت الى فلسطين المحتلة قبل عقود باختيارها، ولوحظ آنذاك وجود حركة استقطاب للنخب الثقافية للترويج للتطبيع في مدينة عدن (الأمة – 155 بتاريخ 22يونيو 2000م)، وتوالت بعد ذلك الأفواج “السياحية” الاسرائيلية إلى عدن وصنعاء والمحويت وصعدة ، ومنها أول فوج سياحي اسرائيلي يصل الى صنعاء عبر أديس أبابا (الأمة156بتاريخ29يونيو2000م).

وكذلك كان توافد السواح الأمريكيين الصهاينة الى الجمهورية اليمنية، بعد حصولهم على تأشيرات الدخول في الولايات المتحدة وتحديدا عبر ممثليه اليمن في الأمم المتحدة، يتم بواسطة شركة سياحية ناقلة تسمى (رحلات الجليل) وكان خط الرحلة يمر بالأردن ثم ينقلون على الخطوط الملكية الاردنية الى اليمن وكانت الرحلات والزيارات المنسقة قد بدأت بتاريخ 28 مارس2000م بعدد من الوفود المتوالية والتي كان عددها يتراوح بين 20-30 فردا وقد أوردت الصحف التي تناولت الأمر بشيء من التفصيل ان الوفد السياحي الثالث لم يسافر الى بلد الترانزيت (الاردن) بل طار مباشرة من تل ابيب الى اليمن.

ومع تزايد هذه الرحلات وبعد ان ذاعت أخبار هذا النشاط التطبيعي الفج، ارتفعت أصوات للتعبير عن السخط الشعبي وتمثلت هذه الاصوات بتنديد عدد من خطباء الجوامع فيما أعرب ما كان يسمى بمجلس تنسيق المعارضة (ما سمى لاحقا باللقاء المشترك) عن احتجاجه على هذه الزيارات مع مطالبته بسحب الثقة عن الحكومة.

ونشرت صحيفة “الوحدوي” عن ذلك خبرا تحت عنوان (نواب يطالبون بمساءلة الحكومة حول التطبيع مع الصهاينة).

كما تناولت الصحف آنذاك، خبر موافقة رسمية على استقبال 10 آلاف سائح يهودي شهريا، ونقلت عن صحيفة “يديعوت احرونوت” العبرية ما يفيد بأن “مسؤولين كبيرين في وزارة الخارجية الإسرائيلية قماما بزيارة سرية إلى اليمن والإمارات” (يؤكد هذا دقة ما جاء في الوثائق التي نشرتها القوات المسلحة والتي كشفت أن الإمارات كان لها دور كبير في العلاقات بين نظام صالح والكيان الصهيوني).

وأضافت الصحيفة العبرية آنذاك أن زيارة الوفود السياحية اليهودية إلى اليمن تم التوصل لها بعد اتصالات ولقاءات عديدة خلال أشهر، بإدارة من وزير الأمن الداخلي السابق (آنذاك) في إسرائيل “افيغدور كهلاني” وهو من مواليد اليمن. (هنا ارتباط آخر بقضية التجنيس التي كشفتها الوثائق).

وقالت صحيفة “يمن تايمز” وقتها إن أكثر من 45 ألف يهودي كان الكيان الصهيوني آنذاك ينوي إرسالهم في زيارات إلى اليمن، وأن اتفاقا مع الحكومة اليمنية أبرم لتنفيذ الزيارات (10 آلاف يهودي كل زيارة) عبر الأردن.

وقد زار سياح اسرائيليون عدن ضمن افواج سياحية كبيرة على متن سفينة سياحية ضخمة ودخلوا بجوازات سفرهم الاسرائيلية، وكانت تلك الزيارة ومثيلاتها تتم بتنسيق من قبل شخص يحمل جنسية مزدوجة (صهيوني أمريكي) يدعى “بتسمح كادي هاليفي” ويبلغ من العمر 80 عام، واشارت كذلك بعض الصحف المحلية الى زيارات سرية متتالية أجراها عبد الكريم الارياني إلى إسرائيل، وعدد من اللقاءات عقدها مع مسؤول منطقة الخليج بالخارجية الإسرائيلية آنذاك “بروس قشطان” والتي وصفت العلاقة مع اليمن بالحميمية.

وبحسب الصحف التي اوردت الموضوع فقد عقدت لقاءات سرية كثيرة كان ينفيها المسؤولون اليمنيون وتؤكدها الخارجية الإسرائيلية ومنها لقاء علي عبدالله صالح بمندوب الكيان الاسرائيلي في الأمم المتحدة وهو حاخام صهيوني يدعى “يهودا لنكري” وقام بمصافحته وذلك خلال زيارة “علي عبدالله” لأمريكا في ابريل 2000م، ولكنه زعم بعد ذلك وعقب انكشاف الأمر انه لم يكن يعلم بالتحديد من هو ذلك الشخص وماهي صفته الدبلوماسية مدعيا أن ما حدث يعد “كمينا” نصب له على حين غرة، لكن وبالمقابل أكد الاسرائيليون ان ذلك غير صحيح بدليل أن “صالح” قام بدعوة الحاخام لزيارته في مقر اقامته حيث التقى به مرة أخرى وبشكل مطول (مجلة روز اليوسف، العدد 3749 بتاريخ 21ابريل2000م – تقرير : اسلام كمال)، (المحضر الذي حصلت عليه صحيفة المراسل والذي نشر في عدد من الصحف المحلية عقب فتنة ديسمبر أثبت أن اللقاء كان مخططاً له وتم خلاله مناقشة العدد من القضايا منها الاستثمارات الإسرائيلية في اليمن)، ثم صار واضحا الى أي مستوى وصل التطبيع السياحي مع العدو الصهيوني إذ أنها وبعد شهرين فقط من بدء التوافد السياحي المقيت كانت الوفود اليهودية تتجول في شوارع وأزقة صنعاء دون قلق (1627الثوري 29يونيو2000م)، وبحماية وتسهيلات السلطة “المطبعة”.

ونشرت صحيفة “الوحدوي” عدة أخبار أكدت استمرار وصول الوفود الإسرائيلية إلى اليمن من أبريل إلى يونيو من العام نفسه، وخلال الفترة نفسها يؤكد أرشيف الصحيفة نفسها وجود أحاديث عن تمثيل دبلوماسي بين الكيان الصهيوني واليمن، لتسهيل الزيارات.

ومن الشواهد الفاضحة لتوجه السلطة العميلة انه وخلال تلك الفترة اصدر عميد كلية الاعلام توجيها بإحالة طالبين من طلاب الكلية الى التحقيق بسبب مبادرتهما الى تأسيس لجنة طلابية لمقاومة التطبيع زاعما أن ذلك عمل “مسيس”(149 الأمة 11مايو2000م)، وعموما فقد وصل الأمر الى انه وفي الاراضي الفلسطينية المحتلة كان يتم الترويج لعقارات يمنية معروضة للبيع ، وفي ذات الفترة  تم رصد اسرائيليين في عدن وفي صعدة وصولوا لشراء بعض المنازل هناك (1631 الثوري 27يوليو2000)، وكانت مجلة نوافذ التي يرأس تحريرها نصر طه مصطفى قد خصصت حينها عددا كاملا لتناول موضوع تجول مجموعات يهودية في صنعاء ولقاءاتها بالأهالي هناك.

وبالتزامن، أعلنت صحيفة “الوحدوي” أنها ستضع “قائمة بالمطبعين” تحتوي على “الأشخاص والوكالات السياحية والفنادق التي كان لها دور في عملية دخول واستقبال الأفواج من السياح اليهود إلى البلاد”.

وكانت صحيفة “هآرتس” العبرية قد كشفت قبل ذلك عن محادثات جرت في “إسرائيل” بين شركات صهيونية وعدد من وكلاء السياحة اليمنيين، وأن أحد رجال الأعمال اليمنيين طلب أن يكون ممثلا رسميا لشركة “إل عال” الإسرائيلية في اليمن، فيما طلبت الشركة السماح لطائراتها بالتحليق في المجال الجوي اليمني، وتحدثت عدة مصادر لصحيفة المراسل بأن أحد وكلاء السياحة اليمنيين الذين التقوا مع الشركة الإسرائيلية كان له صلة قرابة مع علي عبد الله صالح نفسه.

والحقيقة أن الحكومة نفسها آنذاك لم تكن تتحفظ كثيرا إزاء مسألة العلاقات مع الكيان الصهيوني، فإلى جانب ما نقلناه سابقا عن الصحف المحلية التي وثق أرشيفها مطالبة البرلمان بمساءلة الحكومة حول “التطبيع”، نجد أيضا أن نائب رئيس الوزراء وزير الخارجية آنذاك، عبد القادر باجمال، صرح بأنه “توجد ضغوط أمريكية على اليمن لإقامة علاقات مع إسرائيل” وهو تصريح جاء على وقع اشتعال الرأي العام حول زيارات الوفود الإسرائيلية إلى البلاد، أي أن الحكومة حاولت أن تبرر ما تفعله.

ومع ذلك، بحسب ما ينقل أرشيف صحيفة “الوحدوي” نفى مساعد وزير الخارجية الأمريكية “الضغوط” التي تحدث عنها باجمال، (لم ينف العلاقات) وقال إن “إقامة العلاقات الدبلوماسية أمر طبيعي” وإن “كل طرف يفعل ما يريده”.

أما وزير الإعلام آنذاك، عبد الرحمن الأكوع، فقد أقر في تصريحات لجريدة “البيان” الإماراتية بأن الحكومة كانت تعتزم فتح “ملف التطبيع”، حيث قال إنه تم السماح لوفود سياحية يهودية بزيارة صنعاء، ولكن لوجود رد فعل شعبي وسياسي مناهض لهذا التوجه “فقد قررت اليمن تأجيل فتح ملف التطبيع”!

وحقيقة رد الفعل الشعبي والسياسي الرافض لزيارات الوفود الإسرائيلية إلى اليمن، تؤكد أن العلاقات بين نظام صالح والكيان الصهيوني كانت قد وصلت إلى مستوى متقدم من العلنية، وهو أيضا ما يؤكده امتداد رد الفعل هذا ليشمل الوسط العلمائي، ففي الوقت الذي تتابعت فيه تلك الزيارات بين ابريل ويونيو من العام نفسه، أصدر أكثر من 16 عالما يمنيا على رأسهم مفتى الجمهورية آنذاك، العلامة أحمد زبارة، فتوى بتحريم التطبيع مع اليهود والتعامل معهم بالبيع أو الشراء أو الاستثمار أو التمليك للأراضي.

ويقودنا هذا إلى نقطة أخرى تكشف أن زيارة الوفود الإسرائيلية إلى اليمن كانت قد بدأت ترتقي إلى مستوى التوطين، وهو ما تؤكد عدة صحف تناولت هذا الأمر آنذاك، وأوضحت أن بعض الوفود التي كانت وصلت إلى اليمن، قامت بشراء عدد من المنازل في عدن وصعدة.

وحتى العلاقات التجارية بين نظام صالح والكيان الصهيوني، والتي تظهر في الوثائق التي كشفتها القوات المسلحة، كانت قد تجاوزت حاجز السرية، وتناولتها وسائل الإعلام المحلية، حيث نجد في الأرشيف الصحفي للعام 2000، عدة أخبار عن جهود مبذولة برعاية النظام لـ”إغراق الأسواق اليمنية بالبضائع الإسرائيلية” بل وضغوط تمارس على بعض التجار الصغار لشراء وتسويق هذه البضائع مقابل منحهم تسهيلات معينة.

هذه الإطلالة السريعة والموجزة جدا على أرشيف بعض الصحف المحلية في جزء من العام 2000 فقط، تقدم لنا صورة واضحة عن حقيقة الوضع الذي كانت قد وصلت إليه العلاقات بين الكيان الصهيوني ونظام “صالح” آنذاك، وهو ما يلتقي بشكل واضح مع سياق الحقائق التي احتوت عليها الوثائق التي كشفتها القوات المسلحة أمس الأول ويؤكد دقتها، بل ويؤكد على أن تلك الحقائق التي فاجأت الكثير، كانت قد أصبحت أقرب إلى معلومات عامة قبل 20 سنة، وأنه لولا الرفض الشعبي والجهود التي قطعت الطريق أمام استمرار تلك العلاقات وأسهمت في فضحها وتشكيل وعي محصن ضدها، وعلى رأسها جهود الشهيد القائد السيد حسين بدر الدين الحوثي التي واكبت تلك لفترة، لكان اليمن بعهد النظام السابق ربما قد سبق الأنظمة الخليجية إلى إعلان التطبيع مع الكيان الصهيوني بسنوات.

 

 

 

(16)

الأقسام: تقارير المراسل